ميزان المواهب المختل- حين يصبح الإبداع سلعة تباع وتشترى

المؤلف: عبده خال10.15.2025
ميزان المواهب المختل- حين يصبح الإبداع سلعة تباع وتشترى

اختل معيار التقدير للمهارات والمَلَكات، ولم يعد هناك مقياس دقيق وثابت يُعتد به في تقييم الموهبة الحقيقية. لا تسعى هذه المقالة إلى توجيه الاتهامات، بل تهدف إلى تقديم وصف موضوعي لحالة عامة تم رصدها في مختلف الأوساط وبين شرائح المجتمع المتنوعة، إذ لم تعد هناك حدود جغرافية أو ثقافية تفصل بين المجتمعات في هذا الشأن، فما نشهده هنا، نشهده هناك.

لقد أدركت المجتمعات قاطبة الأهمية الجوهرية للمواهب ودورها الحيوي، وسعت جاهدة إلى دعمها والاحتفاء بها. ولم يغب عن العرب تقدير وتشجيع أي موهبة تظهر وتسطع، وتشهد كتب التاريخ والأدب على حفاوة القبائل والشعوب بظهور شاعر مبدع من بين أبنائها، وكيف كانوا يقدمونه كرمز للفخر والاعتزاز أمام القبائل الأخرى.

إلا أنه منذ تلطخت ساحة الشعر بالمداهنة والتزلف، وأصبح الشعراء يتلقون الأموال الطائلة مقابل قصائد المديح الزائفة، فقد الشعر بريقه وقيمته. كان الممدوح يعلم تمام العلم أن الشاعر لم يصدق في مدحه، لكنه كان يكافئه بسخاء.

منذ عبارة "املأوا فمه ذهباً"، حدث شرخ عميق في مفهوم استقبال الفنون كموهبة سامية لا تقدر بثمن ولا تخضع للمساومة. استمر هذا الوضع المتردي في استغلال الموهبة، وكان الشعر، الذي يُعتبر "ديوان العرب"، الأكثر تضرراً، إذ وصل إلى مرحلة مؤسفة تتمثل في وجود مكاتب متخصصة في بيع القصائد، حيث يتم تحديد أسعار الأشعار وعرضها للبيع لاستخدامها في المناسبات والأفراح، وكأنها سلعة رخيصة تُذبح على مسامع الحضور.

هذا الانحدار الأخلاقي هو انعكاس صادق للحالة الاستهلاكية التي اجتاحت كل مناحي الحياة، وحوّلت المواهب إلى مجرد سلع قابلة للبيع والمتاجرة.

يحدث هذا التدهور في المجتمعات التي تهمل مواهب أبنائها وتحيلهم إلى كائنات هامشية تعاني الإهمال والتهميش.

وكلما تجنبت الموهبة الوقوع في براثن البيع والشراء، كلما حافظت على نقائها وسموّها، وأضفت مكانة رفيعة على المكان الذي نشأت فيه، وبرزت كدليل على رفعة الوطن الذي يرعى مواهبه ويصونها.

ولإدراك الفارق الجوهري بيننا وبين المجتمعات الأخرى، نجد أن الغرب يرفض فكرة بيع الإنسان لنفسه أو شراء غيره، وهذا هو جوهر الحماية والكرامة.

قد يكون هذا الكلام سابقاً للتغيرات الجذرية التي فرضتها الحياة المعاصرة، والعودة إليه تكمن في أن الجميع أصبح مُعرّضاً للبيع والشراء عبر وسائل التواصل الاجتماعي، التي غيّرت طبيعة العلاقات الإنسانية، وأصبح الجميع يبحث عن مشترٍ. خير دليل على ذلك هو الانتشار الواسع للأشخاص الذين يفتقرون إلى الموهبة الحقيقية وينشرون التفاهة والسخافة، ولكن قولي هذا لن يغير شيئاً ولن يلتفت إليه أحد.

أعلم أن الحكم على الأمور من الخارج لن يقدم أو يؤخر.

حالة البيع هذه تمثل طريقاً وعراً يؤدي إلى تغيير جذري في البنى الثقافية، فهل هي مجرد ظروف طارئة تدفع المجتمع إلى مسارات جديدة ذات خصائص مختلفة عن الثقافة السائدة في الماضي؟

إنه سؤال يعكس حيرة اللحظة الراهنة، وإذا كان للسؤال قيمة، فهو يتمثل في السعي إلى استحداث عادات ثقافية جديدة تتناسب مع منطق السوق والبيع والشراء.

وبما أن الحالة الثقافية العالمية تعيش حالة من السيولة وعدم الاستقرار، وتحتاج إلى فترة من الزمن لكي تعود الأمور إلى نصابها وتستقر القيم، فسيستمر تبخر القيم الثقافية وتلاشي المواهب، وقد تستقر هذه الحالة الجديدة لتصبح هي الوضع الطبيعي الذي يتم البناء عليه.

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة